مبروكة خادمة الحاج أحمد .. سلسلة من قصص تاريخ جادو

في بيت من بيوت جادو القديمة وفي فترة ما بين سنة 1936 ..1938 هذه الفترة سيطرت فيها الحكومة الايطالية على مناطق الجبل بالكامل ومن ضمنها فساطو.

العلم الإيطالي كان فوق سارية (قصر الحكومة) وفي ميدان ( البياطسة ) أطلق عليه فيما بعد ميدان ( قرتسياني).

أصبحت الحكومة تتجه إلى الاستقرار والبناء وفرض سيطرتها الكاملة على الجميع دون استثناء بعد حرب أهلية طاحنة ما بين مناطق ومدن الجبل.

في هذه الفترة توجد عائلة من عائلات (فساطو جادو) ميسورة الحال كانت تسكن معهم امة (خادمة) تقوم على خدمتهم في السبعين من عمرها جاءت من مجاهل أفريقيا أطلق عليها اسم (مبروكة) يقال ان موطنها الاصلي من بلاد الاحباش (اثيوبيا الحالية).

صورة تعود لمدينة جادو

كان تقوم بالكثير من الأعمال منها الزراعية والصناعية (التقليدية) ، في هيئتها ومظهرها الخارجي ، كانت طويلة ، كثيرة السواد في لون بشرتها ، إذا التقيت بها في مكان خالى وشبه مظلم ينتابك الخوف من طولها و سواد بشرتها ووجهها المخطط بخطوط طولية على طول الخدود ، وعينان تكاد ان تخرج من مقلتيهما ، اللغة ( الامهرية ) مختلطة بالامازيغية والعربية بلكنة افريقية التي تتكلم بها تجعل منها شخصية مميزة في مجتمع يتكلم الأمازيغية فقط.

الأطفال في الحي كانوا يخافون منها . ولكن كانت امة طيبة ،وحكيمة ، ونظيفة في مظهرها ، تحب العمل من الفجر الى صلاة المغرب، وفي بعض الأحيان بعد صلاة العشاء كانت تتخذ من أحد زوايا الدار مكان للعبادة وتجلس ساعات إلى ما بعد منتصف الليل وهي تتمتم بكلمات غير معروفة في جنح الظلام لم يسألها أحد عما تفعل وعما تقول في تعبدها.

أكثر من يفهم تصرفاتها هو (الحاج احمد) كان الحاج يبلغ من العمر الثمانين وله من العلم والحكمة الكثير ولذلك يتصرف معها بحكمة وثبات عكس من كان في البيت من ( العجائز ) المتواجدات كان يعلم من خلال تصرفاتها أنها قليلة الكلام كثيرة الفعل لها من الحكمة الكثير ، إذا رايتها في بعض الاحيان وهي تفعل شئ تقول عنها مجنونة وبعد ذلك يتبين أن لها حكمة في فعل ذلك الشئ لا تبوح به حتي يقف عنده المرء ويدرك أنها كانت محقه فيما تفعل ، الحاج كان يراقب ما تفعل دون أن يسأل أو يعترض.

قال الحاج من مواقفها أنه في أحد الأيام وبعد صلاة المغرب وبينما رجل في طريق عودته من الغابة وفي أحد الدروب والمسالك المحاذية للمقابر القديمة اخد ينظر إلى المقابر وهو يرتعد من الخوف مسرعا في خطواته فجأة وجد الامة امامه تخرج عليه من احد الدروب تجر حمار محمل بعدايل ، فلما رآها امامه في هيئتها الطويلة وشكلها المخضب بالغبار.

سألها وهو مرعوب من الخوف

من انتي (جان) ؟ بسم الله ومتحصنين بالله.

فقالت له بلكنة افريقية (انا جان من المقابر) فخاف الراجل وارتعب فهرب مسرعا وهو ينظر خلفه.
وفي أحد الليالي و بعد صلاة العشاء بينما العائلة في صحن الدار( وسط المنزل )، (المنازل القديمة المفتوحة ) يتجاذبون اطراف الحديث ويضحكون ، و مبروكة جالسه و منكبه على تنظيف الزيتون من الأحجار وباقي أوراق الاشجار وهي في صمت دخلت على صمتها احد العجائز وعكرت ،صفوها و هدوءها واعترضت عما تفعل وأرادت توجيهها ، فصار الحديث والشد والجدب وخصومه بينهما.

مبروكة في طبيعتها لا تحب كثر الكلام و الحديث فأصبح الصوت يعلوا ويعلوا بين العجوزتين مابين لغة امازيغية مختلطة بالامهرية الإفريقية ، والحاج متكي على وسادة يراقب الموقف ويضحك ،في مشهد كوميدي يستمتع به .
قالت له مبروكة اسمع يا سيدي الحاج (أنا لن اتكلم معها ولو بكلمة وسوف اكوي لساني هذا وأنا اعني ما اقول).

كان (الكانون) بجانبها فتناولت جمرة بيدها ووضعتها على لسانها ، هنا العجايز فزعوا وخافوا من المشهد ، والعينان يكاد أن يخرجن من مقلتيهما وبعدها وضعت الجمرة جانبا بعد أن انطفأت على لسانها ودخلت في سكون وتركيز في نقطة واحده مقابله بعينين لم يرتد لهم طرف وتكاد أن تخرجا من مقلتيهما.

كان الحاج أحمد عالما بمثل هذه الأمور.

قال للعجايز لا احد منكم يتكلم وقم يا ابني واقفل باب البيت لكي يحول دون خروجها إلى الشارع ووضع يده على رأسها دقائق فهدأت وعادت إلى عملها دون أن تنطق بكلمة أصبح هذا درس للعجايز كما فسر الحاج ذلك حيت قال يا عجائز أن الأمة تقصد بذلك أن كلامكم كثير ولا أحد منكم يعمل.

اعجب الحاج من حكمة هذا الامة ودروسها وقال عنها أنها حكيمة بحكمة عشرة رجال ولها من القول والفعل والبأس ما يعجز عنه الرجال.

وفي قصة أخرى

قال الحاج بينما نحن في الغابة نجني الزيتون وننظفه كانت لي زيتونة كبيرة تقع على قارعة الطريق المؤدية الى الرجبان الزنتان في (امى بالي).

اتخذت من ربوة بجانب الطريق مكان تجمع فيه الزيتون وتقوم بتنظيفه ، وإذ من بعيد نرى غبار يتصاعد وأصوات سيارات قادمة في اتجاهنا كان رتل من الجيش (القوات الايطالية) قادم من يفرن يتقدم الرتل سيارة عسكرية صغيرة ومن خلفهم سيارات نقل جنود تقل جيش من المجندين الاحباش والايطاليين ، ولم وصل الرتل بالقرب منا توقفت السيارة الصغيرة وتوقف من خلفها الرتل ونزل منها ضابط قصدني ، يستفسر عن بعض الأمور ودخلت في حديث معه وجلسنا نشرب كأس من الشاهي ، نظرت يميني إلى الربوه رأيت الأمة مبروكة تركت ما في يدها وتوجهت إلى أحد السيارات المحملة بجيش الأحباش نزلوا من السيارة لم رأوها متجه نحوهم وسلموا عليها كانوا فتيه من الشباب واخذوا يتحدثون معها بلهجتهم وهم في وضع جلوس وهي واقفة أمامهم ، استغربت أنا و الضابط الايطالي متسأل كيف تعرفت عليهم وهم كذلك وما سبب هذا الإنصات بكل جوارحهم لكلامها ، و كيف عرفوا أنها تعود إلى بني جنسهم و بلادهم .

قال الحاج أحمد عرفوها وعرفتهم من خلال الخطوط التي تحملها على خدود وجهها (خطوط طولية) وقال لكل قوم خطوط مميزة يعرفون بها بعضهم بعض وربما عرفوا أن لها كلمة وحضور ومكانه في قومها وهذا ما أجزم به.

المهم اخذت في الحديث معهم والرتل متوقف بالكامل ، قال الحاج للطفل اذهب واتي بطبق الفول والعدس وغيره كان مطبوخ وجاهز وأعطه لهؤلاء الأحباش ، ذهب الطفل وعاد محمل بالطبق.

قدم الطفل لهم الطبق اخذوه منه وأفرغوه في متاعهم ووضعوا بدل عنه سكر وشاهي وقدموا للطفل مع الشكر وحسن الضيافة في وقت كان السكر والشاهي قليل في البلاد في تلك الفترة وانطلق الرتل في طريقه.

وفي موقف آخر

قال الحاج في فترة الصيف طلبت منها أن تجهز نفسها استعداد للذهاب إلى غابة طرميسة والإقامة فترة هناك لجمع التين (الكرموس).

قال أخذت تجهز الزاد والمتاع وتستعد للخروج عند الفجر ، قال الحاج احمد قلت لها حملي هذه الحاجات على ظهر الحمار، فقالت لي لا لا انا لا احب ان أتعب نفسي واقلق راحتي بوجود الحمار معي وبرفقتي سيرهقني.

قال الحاج قلت في نفسي و داخلي هذه مجنونة وتحب التعب وتفضل أن تذهب على قدميها على أن تركب وتأخذ زادها على الحمار .

قال لم أعقب على رغبتها ، وبالفعل خرجت مرتحلة وهي تنوي الاقامة في المكان حتى ينتهي موسم التين (الكرموس).

وبعد يوم او يومين قال الحاج لحفيده اذهب الى مبروكة في غابة طرميسة وخد لها الزاد ،، من التمر ، والدقيق والزيت ، وغيره.

وقام الحاج بتجهيز المونة كاملة على ظهر الحمار.

وقال لحفيده انطلق و توكل على الله ركب الصغير فوق ظهر الحمار وانطلق إلى الغابة وبعد ساعات من قطع مسافة الطريق وصل إلى مكان إقامة مبروكة في الغابة.
قال الصغير وقفت عليها وهي تعمل على تجفيف التين نظرت لي نظره

وقالت ماذا جاء بك إلى هنا ولماذا أتيت ؟
قال الصغير لها لقد أرسلني جدي الحاج محمل بالمونة.
قالت أتيت بهذا الحمار إلى هنا فاليوم لن ننام ابدا.
قال لها الصغير لماذا ؟
قالت أنا قلت لجدك أن الحمار سيتعبني .

اليوم يا ولدي وفي هذه الليلة لن ننام ابدا فالضبع  سيأتي الينا.

قال الصغير فزعت من قولها و لما وصلت المكان كان التوقيت قبل صلاة المغرب بقليل والشمس تقترب من الغروب ولا استطيع العوده إلى البلدة فلابد أن أنام هذه الليلة في (الغار) إلى الصباح

إذن المؤذن للصلاة المغرب من مسجد طرميسة القرية القريبة من المكان.

قال الصغير ان مبروكة أخذت تجمع الخشب وباقي اغصان الزيتون وتضعها بجانب مدخل الغار بدأ الليل يرخي سدوله وتناثرت النجوم في السماء فقامت بإشعال النار أمام مدخل (الغار) وأدخلت الحمار الى الداخل وأعطت له ما تيسر من الأكل وقامت إلى الزاد واعدت لنا العشاء بطريقتها الخاصة ، وأكلت حتى شبعت وكذلك فعلت هي.

فقلت لها متسائل هل تعتقدين أن الضبع أو الذئب سيأتي؟
فقالت بل الضبع و اجزم بذلك وقامت بقفل الباب بباقي أغصان الزيتون .

اخذتنا غفوة بعد منتصف الليل ولكنها لم تدم فالحمار اخد في الهيجان لما احس بقدوم الخطر ، فقامت من نومها مسرعة وأشعلت النار خلف الاغصان داخل الغار وصار الضبع يحوم حول مدخل الغار .

قال الطفل المصيبة أن مدخل الغار بدون باب والتحصين لم يكن محكم وظل الضبع يحوم ويحوم أمام المدخل لما احس بوجود رائحة الحمار بالداخل فاخذ (يزىر ،،، يزىر ) وأنا في رعب وتقول لي لا تخف.

مبروكة كانت ترد عليه بنفس الزئير من داخل الغار ، وأخذت على هذا الحال ما يقارب نصف ساعة ولم يستطع الاقتراب والدخول وبعد فترة عاد ادراجه ورحل.

قال الصغير بعد أن رحل خلدت هي إلى النوم وأنا لم أعرف النوم حتى طلوع الشمس وبعدها ذهبت في نوم عميق إلى منتصف النهار ، كانت ليلة لم انساها طول حياتي.

اخد الطفل الحمار ورجع إلى جده وقص عليه القصة .. فقال الجد أنا أعلم بأن الضبع يخاف ويتراجع أمام شخص يزىر مثله والله أن هذه الأمة باستطاعتها أن تقود قوم إلى بر الأمان . فهي قليلة الكلام ، صادقة أمينه صاحبة حكمة ،في اقوالها ، وأفعالها.

 

 

 

مصدر القصة: الكاتب الاستاذ سعيد أحمد الباروني

شاهد أيضاً

وفاة الكاتب والباحث الليبي محمد أحمد جرناز عن عمر ناهز الـ 76 عاما

توفي الكاتب والباحث الليبي ” محمد أحمد جرناز” في العاصمة طرابلس بعد معاناة مع المرض …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.